- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (012) سورة يوسف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الأخوة الكرام، قبل أن نَمْضي في الحديث عن الآيات الأخيرة من سورة يوسف عليه السلام أُحِبُّ أن أُنَوِّهَ تَعْقيبًا على كلمة البارِحَة حينما قلتُ: أربع كلمات مُهْلِكات ؛ أنا ولي وعندي ونحن، سألني أخٌُ كريم بعد الدرس ؛ لو أنَّ أخٌ سأل: مَن يحْفظ سورة البقرة، فقال أحدهم أنا فقوله: أنا هنا لا علاقة لها بالدرس إطْلاقًا، مَن عنده غرفة تفيض عن حاجته ؟ يقول: أنا، لذا أيُّ أنا المُهْلِكَة ؟! التي فيها إثْبات الفِعْل للذات، تقول: أنا أفْعل كذا، والفاعل هو الله، قال تعالى: ولا تقولنَّ لشيء إنِّي فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله، فإذا قلتَ: أنا وتقْصِد إثبات الفعل لِذاتِك فهذا هو الشِّرْك، وإذا قلنا: نحن نفْعَلُ ما نشاء، وننْسى الله سبحانه وتعالى هو الذي يفْعل ما يشاء، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، مَن هم القوم الذين تواصَوا بالحق ؟ نقول: نحن، فنحن هذه لا علاقة لها بالكبر، وكذا إذا قلت هذا القلم لي، فأنت بهذه الكلمات ما أشْرَكْتَ، الشِّرْك أن تُثْبت الفِعْل لِذاتك أو لِمَجموعة تعيش فيها.
الشيء الثاني ؛ وهو نقطة دقيقة، وأرْجو الله تعالى أن يُوَفِّقَنا إلى تَوْضيحِها، الأخْذ بالأسْباب فرض، لأنَّ الله تعالى خلَقَ هذا الكوْن وِفْق نِظامٍ دقيق، فحينما لا تأخذ بالأسباب فأنت لا تعبأ بِهذا النِّظام بل تسْتخِفُّ به، والاسْتِخْفاف بالنِّظام اسْتِخْفاف بالمُنَظِّم.
لو أنَّ ابنَك أخذتهُ حرارة، ماذا تفعل ؟! تأخذه عند الطبيب وتشتري له الدواء وتتوكَّل في كل هذا على الرب سبحانه وتعالى، فالفرق بين الشِّرْك والتَّوحيد أنَّ الشِّرْك تأخذ بالأسباب لكِنَّك تعتمِدُ عليها، لكنَّ التَّوْحيد تأخذ بالأسباب ولكنَّك تعْتمِدُ على الله تعالى، واسْمَعوا الكلمة الدقيقة: الطريق الصحيح على يمينِهِ وادٍ سحيق، وعلى يساره وادٍ سحيق، فالواد الأوَّل عدم الأخْذ بالأسباب مَعْصِيَة، والوادي الثاني الاعْتِماد على الأسباب شِرْك، ما الصَّواب ؟ أن تأخذ بالأسباب كي لا تعْصي، وأن تعتمِد على الله لكي لا تُشْرِك، فهذه نقطة مُهِمَّة جدًا الأخذ بالأسباب طاعةً لله تعالى، والاعتِماد على الله لا على الأسباب اتِّقاءً للشِّرْك، ولك أن تسأل وتُقَدِّم اعْتِراض، وأن تتوسَّط لدى شَخْص كُلّ هذا مُباح ومِن باب الأخذ بالأسباب، لكن حينما تقول: صديقي فلان ولن يُخَيِّبني، أما إذا قلت: يا رب، الأمر بيدِك، وأنا عبدك وأمرك نافذ فيَّ، وأطلب منك تيْسير هذا العمل، فاللهمَّ وفِّقني ويسِّر لي، لكن إن ظنَنْت أنّ هذه الوسائل تفْعل ما تشاء فقد أشْرَكْت.
الآيات الأخيرة من سورة يوسف عليه السلام، قال تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)﴾
كيف تعرف الله ؟ مِن خلْقِهِ، قال تعالى:
﴿قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ(101)﴾
وكيف تعرفُ الله ؟ مِن أفعالِهِ قال تعالى:
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)﴾
وكيف تعرف الله ؟ من كلامه، قال تعالى:
﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)﴾
طُرقٌ ثلاثة توصِلُكَ إلى الله ؛ خلْقُهُ الكَون، وأفْعالهُ الحوادث، وكلامه القرآن، قال تعالى:
﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)﴾
الآية دقيقة، ليس الرُّسل أكثَرَ الناس يأسًا ! لا، لكنَّهم آخرهم يأسًا، فأحْيانًا يؤخِّر الله النَّصْر، فتَجِدُ ضِعاف الإيمان سَقَطوا ويقولون: أين الله ؟ تأخير النَّصر امْتِحان للعباد، ويكشف منه الصالح من الطالح، وهناك مَوْقف في القرآن دقيق جدًا ؛ فئة صغيرة مُستَضْعفة موسى وأتباعه فرُّوا من فرعَون ؛ أكبر قُوَّة غاشِمة في مصر ! جنود وخدم وأتباع وقَهْر، وكان البحر أمامه، بِرَبِّك هل هناك أمل للنَّجاة واحد بالمليون ؟! قال تعالى:
﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61)﴾
وهذا سيِّدنا يونس ؛ هل مِن مُصيبة أعظم مِن أن تكون في بطْن الحوت ؟ ظلام بطن الحوت وظلام الليل، وظلام البحر !! قال تعالى: " فنادى في الظلمات..." الفِعْلُ فِعْلُ الله، ولا تيأس مهما تكن المُصيبة، مرض خبيث، والله أعرف عشرات الأشْخاص مرضهم وصل بالدرجة العاشرة من الخبث، وهذا المرض تراجعَ من ذاتِهِ، والقصَّة من اثنى عشرة سنة وهو حيٌّ يُرْزَق ! لا يأس ولا قنوط مع الإيمان، والقنوط دليل الإيمان الضعيف، وقد يكون كُفْرًا.
قال تعالى:
﴿إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)﴾
فالمؤمن لا ييأس، والله تعالى قويّ وعادل وسميع وبصير، لذلك قال تعالى:
﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)﴾
أما لو جاء النَّصر سريعًا، لكان كلّ شيء مُغَطَّى، لكن بِتَأخير النَّصْر نرى المؤمن من غيره، ففي الخندق عشرة آلاف مُقاتِل حاقِد وأرادوا أن يستأصِلوا شفقة المسلمين، ونقض اليهود العهْد، لذلك أحدهم قال:
﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا(12)﴾
وهناك تعبير آخر: أيَعِدُنا صاحبكم أن تُفتح علينا بلاد قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يقضِيَ حاجته ؛ ما قال رسول فقد ظنَّه دجَّالاًّ ! هكذا قال بعض من كان مع النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى:
﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23)﴾
وقال تعالى:
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(214)﴾
تأخير النَّصْر امْتِحان للمؤمنين، وكُلَّما كان إيمانك بالله أقْوى كلَّما كان إيمانك بالنَّصر أكثر، وكلَّما كان ضعيفًا ففي بداية المرحلة يُهشّ.
فالواحد يمتحننا ليرى الصادق من الكاذب، وأحيانًا ليضَع المتخوِّل والذي يفتخر، يُحَجِّمُهُ، كي يعود لما هو عليه، حدَّثني أحد الأصدقاء البيْطَريِّين أنَّ داءً يُصيب الدواجن فينتفخ الصغير من هم لِغازات في جلده، والدواء أن يثقب الجلد لِيَعود الديك لِحَجْمِهِ، لذلك قال تعالى:
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)﴾
فأوَّل الإيمان للصُّمود بالامتِحان، ولكي تصل إلى الجنَّة التي عرضها السماوات والأرض وسلعة الله غاليَة، قال تعالى:
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(214)﴾